قراءة نقدية للأستاذ... بدر العرابي

(أسئلة على إيقاعات القلب) لفتحي عبد الرحمن
شعرية النص وتقاطب المتضادات

قراءة وتحليل : بدر العرابي

النص :

قلبي عصافير المحبة
أغنيات للسلام  .. حمائم
وهاجس للموت والميلاد  !!
تغتسل الحمامة  ..
يزأر الوحش الغريب
بداخلي نار وماء •
قلبي  ..
نوافذه مدينتكم/مدينتنا
ومن خلف الإطار
تجوس أشباح المدينة .
في القلب عاصفة
تخلخل نبض ايقاعي
وشلال ينظمه  .. ينغمه
فنقرأ في الشرايين المتاحة
                             رقصتين
الرقصة الأولى
تعاني بتر ساقيها
وتنتفض الأخيرة
رقصة غجرية متشنجة
لاالنار تحرق وحشتي
ولامياهي
تطفيء اللهب الرهيب  .
ماذا  .. ?
حديثي غامض
قل للسؤال بأن يصارحني
ويسكب صدقه ملء الوريد
فالقلب ينعشه النقاء
ويموت في لغط الهواء
والماء يأسن حين تتركه النهور  .
قلبي ..
مناسكه انفعالات الأزقة والرصيف
ومن يعربد في دمي
غير الأحبة والرغيف
في كل اوردتي تفرخ قمحة حبلى
                            بميلاد كليف
في الليل
مقصلة تطارحني الهوى
وفي الصباح  ..تموت ذاكرتي
                 واشربها نزيف  .
ينتابني قلق المسافة
بين شرياني ونبضي
ينتابني شجن المراسي
لاحتمالات الوصول
تبا لهذا القلب من قدر ثقيل
قلب  .. تعتق في مداه
قلب مداه موزع
بين المقاتل والقتيل
ادمنت منطقه
فأفحمني التساؤل والجواب
وخرجت من شرك إلى شرك
تحاصرني المآزق والهواجس  !!
ما لهذا القلب يسكن وسط صدري ?
اغمدت أظفاري  .. ومزقت السؤال
فغادرتني انفعالاتي
وصرت أنا المسافر  ..  والدليل •

القراءة والتحليل :

 

إن هيمنة عنصر بنيوي في أي نص شعر ي ، تمنح النص شاعريته ، من جهة ، وتقولب الرؤية النصِّيِّة  من جهة ثانية ؛ فكلما مُثل النص في أثناء تدشينه لعقد الاتصال عبر ثنائية هيمنة العنصر البنيوي وهيمنة الرؤية _ فأنه يحمل المتلقي، وبأريحية قائمة على السلام بين الناص والنص_ لتخوم الغاية والوظيفة المثلى .

 وباختصار نحن أمام نص سلك منهجاً بنيوياً أمثل ،نجح في إيصال الرسالة للمتلقي بتفوق منقطع النظير .

ولعل من أسباب نجاح الرسالة في نص (أسئلة على إيقاع القلب ) _ هذا  التماسك البنيوي الممتد من العتبة حتى الختام ، ويبرز هذا التماسك بصورة جلية بين بُنى النص كافة ؛ إذ تتواتر وتتعاضد البنى جميعها لتأييس وتشغيل النص ، بشكل جماعي كخلية نحل دون أن يخمل عنصر ويصعد آخر بشكل من التناوب ؛ ويبدأ التشغيل الجماعي للبُنى من العنوان :(أسئلة على إيقاع القلب ) ؛ إذ يضعنا أمام الهوية البنيوية للنص التي تبرز إطارياً ؛ قبل ولوجنا وفراغنا من النص ؛ وبالتحديد في ذلك التناغم بين الصورة والإيقاع والإيحاء :

أسئلة جمع سؤال = أسلوب استفهام = إنشاء = منفذ شعري .
إيقاع = موسيقى = صوت منتظم = القطب الثاني لبنية النص/ القصيدة .

القلب = مركز الإحساس بالفرح والألم =وظيفة النبض = ديمومة الحياة = ديمومة منتظمة = الانتظام الإيقاعي البيلوجي لضربات القلب .

وذلك كله يفضي لخلاصة تختزل القادم من النص وتعلن عنه بشكل دلالي إطاري فوقي ؛ فالسؤال حين ينبثق ؛ إنما ينبثق بحثاً عن إجابة ، هذا فيما يخص الوظيفة اللغوية المرجعية لصيغة السؤال في اللغة ؛ لكن هنا تترقى وظيفة السؤال ؛ بل تنزاح لمخض دلالة تغادر الدلالة المعجمية الأولية ؛ لدخولها في تركيب متلاقح ( جملة العنوان ) ؛ فالسؤال / الأسئلة تدخل ضمن قالب شعري وطقس يشخصها راقصة على وقع منظومة مفارقة لوضع قوالب الرقص الفعلية التي تتجسد واقعاً عبر توزيع صوتي متناوب التشغيل بين أدوات الإيقاع الفعلي ( الناي / الربابة / الأوركسترا ...إلخ ) فالرقص  هنا يحاكي ضربات القلب ، وضربات القلب تعني ديمومة الحركة وانتظامها ؛ وإذا كانت نوتات الأدوات الإيقاعية الفعلية تتشكل من تعاضد هذه الأدوات عن طريق تناوب الصوت بين الصعود والعودة والوسط ؛ أي أننا بإمكاننا إيقاف أحدها وتشغيل الآخر ، بل إيقافها دفعة واحدة ؛ كي نتحكم بوقف الراقص _ إذا كان كذلك فإن رقصة الأسئلة ( الحيرة/ الألم ) ليس بمقدور الذات وقفها والتحكم بها ؛ فالأسئلة تتشغَّل عبر طقس يفقد فيه الراقص القرار ويفقد الضابط / المايسترو قرار الوقف أو الاستراحة ؛ والقطبان يدخلان في نوبة رقص بلا مراسم احتفال يؤطرها  طقس السعادة والفرح ، بقدر ما يؤطرها طقس جذوة من  الألم والوجع الذي يلج بالذات في دائرة مستديمة  ؛ لتضع رؤية النص التي تفضي إلى راهنية الوجع والألم الذي تحفُّ  سمفونية الواقع المتناقض الجلية، بين قيم الحياة ومفاهيمها ؛ والتي تتداخل مع مقاطباتها الضدية في علاقة حميمية جسرت المعانقة بينهما أمام دهشة الذات التي تنزف على شكل شلال ألم منتظم الصخب، ينبع بدفق غزير  دون نضب من قعر القلب ؛ ليُناسل نفسه عبر السؤال / الدهشة المسديمة باستدامة  الواقع المفارق واستدامة الحضور الحيوي للذات( النبض) .

تنبثق عتبة ( المضاددة ) كحامل بنيوي ؛ عبر سقالة عريضة تؤطر النص من الأعلى وبشكل عريض ( المدخل / العنوان ) ؛ عبر المفارقة اللغوية / الرمز اللغوي
الدال / والمدلول ، مرة _
والطبيعة المضمونية للمفاهيم الحميمية والملتصقة بالجانب الروحي للإنسان عامة والناص خاصة ، مرة ثانية  ؛ فالإيقاع كمفهوم يندرج ضمن  عشيرة دالات السعادة والقلب كعضو له وظيفته ( تأسيس واستدامة الحضور/ الحياة ) بيلوجياً  ، إلى جانب وظيفته المجازية الدالة على الإحساس بالسعادة أو الحزن ، كذلك ؛ لكن تداعي لفظتي ( إيقاعات + القلب ) وتلاقحهما الشاخص يفترض أن يمخض في التصور الأولي السعادةَ والفرحَ :
إيقاع القلب = لحن = رقص = التعبير عن الفرح = الاحتفال ؛ إلا أن تلك الدلالة المفترضة  والمألوفة حدسياً ،تنقلب لمعادلة عكسية ،تمخض التضاد الدلالي ؛ لتغادر اللفظتان  ( إيقاع + قلب) أفقيهما الدلالي المعجمي والمجازي ؛ وتغدوان دالاً عريضاً على الألم والحزن والحرقة والحيرة ، ومؤشراً لمضاددة مضمونية ، لاتشبه المرجع اللغوي المستقر كنظام صارم .

وخلاصة القول في هذه الفقرة، يكمن في اعتماد الناص تأسيس نصه على سقالة /مدخل (عريض) من التضاد المفتوح على متضادات بنيوية فرعية متعاضدة من حيث التراكيب اللغوية والصور ، متقاطبة الدلالة .

وتتجلى ( التضادات الفرعية ) المنداحة من الأعلى إلى الأسفل الفرعي ، عبر تراكيب ومطابقات تضادية جملية وتراكيب ثنائية ؛ فالجملية نحو :

( قلبي عصافير المحبة
أغنيات للسلام ..حمائم )
تقابل وتتضاد مع جملة :
( وهاجس للموت والميلاد )

فالمحبة/ السلام / الموت / الميلاد = دالات سعادة وفرح وحضور إنساني

بينما :
هاجس الموت = الحزن / الغياب .

وهذا التقاطب التضادي يحمله القلب في آن واحد

وهنا يتحول القلب لمضمار تنافسي متشظي الكتلة ، بين متناقضات يشتد تنافسها دون احتساب مدة زمنية قانونية ينتهي ويتوقف هذا التنافس فيها  ثم يعود القلب لهدوئه واسترخائه ؛ كون وقع الصراع بين المتناقضين مسيَّراً عبر وظيفة القلب كعضو بيلوجي، التي تتجسد في النبض والنبض دالة الحياة والحضور الإنساني ؛ وكأن الناص يرى أن الحياة والحضور الإنساني تتحاكى مع حضور واستدامة الواقع المؤلم / المتناقض ؛ فالحياة تنقلب من مصدر السلام والسعادة،  إلى مصدر الحزن والألم المستديمين  .

ثم التضاد المتوازي بين التركيبين المتواليين :
( تغتسل الحمامة ) = دالة سعادة .
و :
(يزأر الوحش الغريب ) = دالة فزع وخوف وحزن

وهذه المضاددة إنما تدل على تواتر الصراع  بين المتضادات المفهومية ؛ و تبرز العلاقة الحميمية بين الحزن والسعادة بدلاً عن علاقة التنافر والتضاد  ؛ والتي يفترض أن تنعدم في الواقع المستقر و ألا ينبثق هذا النوع الحميمي من هذين القطبين  المضمونيين المتضادين .

وتتوالى أربطةُ التضاد التركيبي عبر محمولات ممتدة حيناً، ومنحسرة حيناً :

(نار/ماء ،عاصفة /شلال ،تخلخل / تنظم / رقصة ذابلة خافتة / رقصة متشنجة ،لا النار تحرق / ولا مياهي تطفئ، ينعش/يموت، نقاء / آسن، في الليل / في الصباح ،المقاتل / القتيل )

خلاصة القول فالنص يتأطر ويتأسس عبر التضاد الأكبر العتبة ( العنوان ) الذي يتجلى في تشغيل وملاقحة الدالات اللغوية المتضادة المعنى في وحدة نصية كبرى ( العنوان) الذي يغدو كغيمة
فوقية تهطل التضادات الفرعية الممتدة والمنحسرة في رقعة النص، وفقاً لتناوب الصيغ المتضادة عبر بُنى تركيبية لغوية ممتدة وأخرى منحسرة ؛ ولعل ذلك يدل على أثر الواقع المضطرب ومتنازع القيم على الذات ، من جهة ، ومن جهة أخرى يدل على امتداد دهشة الذات قُدماً وتناسلها وتناسخ وحداتها عبر التزاوج الثنائي المستديم بين الذات عميقة الرؤية وحركة الواقع التي تشخص تبدُّل القيم والمفاهيم وتحوَّل وظائفها بشكل مخيف ومفزع من الوظيفة الفعلية التي تأسست في المرجعية الذهنية للإنسان، عبر الزمن _ إلى نقيضها ،وامتداد هذا التحوُّل ليغدو نظاماً بديلاً للأصل، يسعى لقلب إطارات الإدراك والمعرفة  التي ترسخت كثقافة معرفية متراكمة  في ذهنية الناص ؛ إلا إن الناص يقرر في النهاية أن يواجه هذا الانقلاب والتبدَّل  بأن يعيد تموضع ذهنه  ويضع حدّاً لتناسل السؤال / الدهشة الممتدة أفقياً ورأسياً ؛ من خلال قلب وضع الذهن  ومشتغلات الإدراك الخاصة به  كأن يقلب عاليه سافله؛ حتى يبقي على توازن
واستقرار الرؤية وحفظ تراتب المفاهيم والقيم بشكلها المستقر المحمول على إطارات المنطق التي اختار أن يضعها بشكل من القلب التركيبي داخل مصفوفات الذهن ، لمواجهة القلب الواقعي الذي احتوى الذهنية الجمعية .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا قاضي الغرام.... بقلم الاستاذ المبدع مارس نورالدين

بائعة الخبز....بقلم الشاعرة الرائعة الاستاذة نعيمة حرفوش

عزف على اوتار القلب..بقلم الشاعر الغريب